onsdag 15. april 2015

كنت جاسوسة في المدينة المنوّرة 1

الفصل الأول 

لا يمكنني تذكّر مجريات ذلك اليوم أو وصف شكل القمر في تلك الليلة التي ابتدأت فيها مغامرتي الغريبة. و لا أعلم علم اليقين إن كانت الأحداث التي تملأ ذاكرتي الآن إنما هي زوبعة في نفس مضطربة قد أفلتت زمام الصواب و تاهت في أرض الضبابية، أم أن كل ما حدث منذ اللحظة التي تنبّهت فيها لوجود براق خارج نافذتي، و حتى اللحظة التي فتحت فيها باب شقتي لأُفاجأ برجلين من الشرطة السويدية يقبضون على ذراعيّ و يجرجروني على الدرج إلى سيارة الشرطة المنتظرة خارج البناء، إنما هو انعكاس الحقيقة التي تجعل الواقع المحسوس هشّاً، كالح اللون، عديم القيمة و الوزن كذرات غبار أمام صفحة الشمس.

نعم، الحقيقة. ألم يقل الأنبياء و الرسل و العظماء عبر التاريخ ان البشر عموماً ليس لديهم القدرة الروحية و العقلية على رؤية الغائب و المحجوب؟ أن حفنة من المختارين فقط تُفتح لهم أبواب السماء؟ و أن هذه الحفنة تحمل على عاتقها مسؤولية إقناع من لم يرَ و يسمع بما لا يُمكن تصديقه؟

من الواضح أن شرح المسألة و تكرير الشرح للرجل الجالس في مواجهتي لايجدي على أي حال. الغريب أنه يذكّرني بالمغضوب عليه أبي لهب، على الرغم من أنه لا يوجد أي تشابه ظاهربين الرجلين، أبي لهب بعبائته القرشية المزركشة و عمامة الرأس المصنوعة من نسيج دمشقي أحمر و ضحكته الرجّاجة، و هذا الرجل بردائه القطني الأبيض، نظاراته الطبية التي ترتكز على آخر ميليمتر من حافة أنفه و النظرة الثاقبة التي يدرس فيها حركة كل عضلة صغيرة أو كبيرة في وجهي و جسدي. هل الشك سبب هذا التشبيه؟ أبو لهب عبّر عنه بضحكة تهكّمية بينما القاعد أمامي يعبّر عنه بصمت مليء بكلام غير مُطَمْئِن.

عندما أتأمل الرجل الجالس على جانبه الأيسر و المشغول بتدوين كل حرف أقوله بميكانيكية عجيبة، و المرأة على جانبه الأيمن بالمكياج الصاعق، الأظافر الطويلة المطلية باللون الأزرق و الملل الواضح على تقاطيعها و حركاتها، أدرك أن قضيتي خاسرة و أصمت. بعد وهنة قصيرة يقطع ذو الرداء الأبيض الصمت.

- من رأيي أن تقضي بعض الأيام عندنا. من الواضح أنك تحتاجين لإراحة أعصابك، النوم المنتظم و البعد عن كل المؤثّرات و المهيّجات التي قد تؤدي إلى ضغط عصبي. ما رأيك بهذا الاقتراح؟

-   إذا كنت تريد رأيي فأنا لا أتفق على استنتاجك و أريد العودة إلى بيتي الآن. أنا لا أفهم أصلاً لماذا أنا موجودة في هذه الغرفة ضد رغبتي؟ أجبته بصوت محتجّ.

تفحصّني بتلك النظرة التي لا تعد بخير ثم قال بصوت هادئ: - قراري هو أن تبقي هنا لعدة أيام، أراك بعدها و ننظر في الموضوع مجدّداً.

يسألني و يقترح ثم يعلن نفسه صاحب القرار. رأيي لا يقدّم و لا يؤخّر. الشيء نفسه حصل عندما تحاورت مع القائدة. هي أيضاً سألتني عن رأيي بعد أن اقترحت المهمة المستحيلة و الخطيرة و الشاقّة، و عندما أجبت بالنفي ابتسمتْ بصمت، و بعد ثوانٍ وجدتُ نفسي وسط منطقة العملية السرية و المجازفة التي قد تفصل رأسي عن جسدي. عند إعادة النظر بالأمور فإن الإكراه على الراحة أفضل من الإكراه على العمل تحت ظروف صعبة للغاية.

نهض حاكم أمري فتبعه إلى ذلك المدوّن و المرأة التي لم أفهم قيمة وجودها في الاجتماع حتى أخرجت حلقة معدنية مثقلة بالمفاتيح من جيب ثوبها. من هذه اللحظة سمّيتها حارسة الزنزانة. تبعتها عبر دهليز طويل بأبواب على الجانبين إلى أن توقّفت عند أحد الأبواب و أدخلت المفتاح بالقفل و لفّته إلى اليسار مرة واحدة. لماذا أدقّق على هذه التفاصيل البسيطة؟ هل أثّرت عليّ المهمة التي اُلصقت بي لهذه الدرجة؟

دخلت إلى الغرفة و جلست على السرير. لم يكن أمامي خياراً آخراً. الغرفة بالجدران البيضاء لم يكن فيها أي أثاث عدا السرير المعدني المغطّى ببطّانية صفراء منسوج عليها التالي: محافظة استوكهولم. لا يوجد لوحة واحدة على الجدران تسلّي البصر. الباب مغلق و في أعلاه نافذة زجاجية مدوّرة تمتلئ بوجه. في الوجه عينان تتفحصني لثوانٍ ثم يغيب الوجه، ليعود بعد نحو عشر دقائق. لا إله إلا الله، أقول في نفسي و أتحسّر على حالي. من مراقِبة إلى مراقَبة خلال يوم واحد! لكن عندي خطة لمحاربة الملل في هذا المكان المكئِب. أتسلل على الأربعة إلى الباب و أقعد على الأرض، أنتظر حتى ألمح حركة في النافذة فوقي و أقفز شبراً واحداً من النافذة و على وجهي تعبير تهريجي. الرجل خلف النافذة يتراجع إلى الخلف بسرعة تؤدي إلى سقوطه على قفاه. ما زال فاغر الفم، مصعوق، عندما أنفجر بالضحك. الباب يُفتح و يدخل ثلاثة أشخاص مهرولين. المصعوق ضغط على زر الإنذار المعلّق على ردائه الأبيض. نوبة الضحك تطول. يخرج الثلاثة دون أن ينطقوا بكلمة. أتمتم: - يا حسرة عليكم، مجانين.

في المساء تجتاحني الكآبة. كم يوماً يمكن أن يقضي إنسان هنا حتى يفقد صوابه؟ انا في قسم العناية المشدّدة في قسم الأمراض النفسية و العصبية في مستشفى دانديريد، و الحق عليّ. إي و الله، الحق عليّ ما على غيري! كان من الأفضل أن أحتفظ بالقصة لنفسي و لا أخبر بها صديقاتي في العمل. لماذا توقّعت أن يصدّقوا أنني صعدت إلى السماء على ظهر حصان مجنّح اسمه بُراق؟ ثم اُرسلت من السماء إلى الصحراء السعودية موكّلة بمهمة في غاية الحساسية؟ و أن هذه الرحلة عبر كتل الغيوم و بين نجوم و كواكب السماء بدأت و انتهت في الليلة نفسها؟

 البارحة.  


و يتبع...